لم تكن الهجرةُ النبويةُ حدثاً عابراً في ذاكرةِ الأمة، بل كانت لحظةً فاصلةً فى مسارِ التاريخِ الإسلامي، نقلتِ الدعوةَ من طورِ التكوينِ العقائدى إلى مرحلةِ التمكينِ والتأسيسِ المؤسسى. ففى زمنٍ تسوده العصبيةُ وتُعبدُ فيه الأصنامُ وتُقدَّسُ فيه الأعرافُ .
- بزغَ نورُ الرسالةِ المحمديةِ حاملاًمشروعاً حضاريّاً يؤمنُ بوحدانيةِ اللهِ وكرامةِ الإنسانِ، ويقلبُ موازينَ الجاهليةِ المتجذِّرةِ.
- جاءَ الإسلامُ فى بيئةٍ ترفضُ التغييرَ، وكانَ رفضُ قريشٍ له نابعاً من وعيها بخطورةِ المشروعِ الإسلامى على مصالحِها السياسيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ، إذْ إنَّه جاءَ ليُقوِّضَ سلطتَهم القائمةَ على النسبِ والرِّبا والتفاخرِ الطبقى - كما زعمت- ولهذا، كانَ أهلُ مكةَ أكثرَ الناسِ عداءً لهذا الدينِ الجديدِ وآخرَ من أسلمَ من اهل مكة ، لأنهم رأوا فيه تهديداً مباشراً لامتيازاتِهم المتوارثةِ.
- فى المرحلةِ المكيةِ، ركَّز الإسلامُ على بناءِ الإنسانِ وإرساءِ العقيدةِ، فكانَ القرآنُ المكيُّ خطابًا يُربِّى النفوسَ على التوحيدِ والصبر و مكارم الأخلاق والإيمانِ بالغيب و البعثِ، لأنَّ النهضةَ الحقيقيةَ تبدأ من إصلاحِ الداخل من تنطلق إلى الخارج . ثم جاءتِ المرحلةُ المدنيةُ لتكونَ مرحلةَ التنظيمِ العملى والتشريعيِّ، حيثُ نزلتْ أحكامُ العباداتِ والمعاملاتِ، وتكوّنتْ ملامحُ الدولةِ الجديدة .
- جاءتِ الهجرةُ تتويجاً لتلك المرحلةِ التربويةِ العميقةِ، لا كفرارٍ من الاضطهادِ، بل كخطةٍ استراتيجيةٍ للانطلاقِ نحوَ التمكينِ. سبقَها تخطيطٌ دقيقٌ تضمَّن، إعدادًا كاملاً، بما فيه هجرة الصحابة الأولى والثانية إلى الحبشة.
- هجرته صلى الله عليه وسلم إلى الطائف بحثا عن النصرة، وبيعتى العقبة الأولى والثانية ثم بعد ذلك خروج الصحابة جماعات و فرادى، و إعداده صلى الله عليه وسلم للزاد و الراحلة واختيار الرفيقِ والدليل و اتخاذ كل اساليب التمويه ، ما يعكسُ درسًا خالداً:
- أنَّ التوكُّلَ لا يُغني عن الأخذِ بالأسبابِ، وأنَّ النصرَ لا يأتى بالتمنِّى بل بالسعيِ الواعى والعملِ المنظَّمِ.
- في المدينةِ، بدأتْ ملامحُ الدولة الوليدة تتشكَّل بوضوحٍ:
- فكانَ المسجدُ مركزًا دينيّاً واجتماعياً وسياسيّاً، - وكانتِ المؤاخاةُ بين المهاجرين والأنصارِ خطوةً لبناء مجتمع تسوده الأخوة و المودة و الوئام،
- و جاءت وثيقةُ المدينةِ كأولِ دستورٍ يُنظِّمُ العلاقاتِ بين المسلمين وغيرِهم على أساسٍ من العدالةِ والحقوقِ المشتركةِ. بهذه الخطواتِ، تحوَّلتِ الجماعةُ المؤمنةُ من كيانٍ صغير ضعيف إلى نواةِ أمةٍ تحملُ مشروعاً عالميّاً.
- حين فُتحتْ مكةُ، أعلنَ النبيُّ ﷺ انتهاءَ الهجرةِ الجغرافيةِ بقولِه: «لا هجرةَ بعدَ الفتحِ، ولكنْ جهادٌ ونيَّةٌ»، مؤكداً أنَّ روحَ الهجرةِ باقيةٌ ما بقيَ الجهادُ فى النفوس والمجتمعِ. ويتجلّى العمقُ الرمزيُّ للهجرةِ فى قرارِ الخليفةِ عمرَ بنِ الخطابِ رضى الله عنه بجعلِها بدايةً للتقويمِ الإسلاميِّ، لا ميلادَ النبيِّ ﷺ ولا بعثتَه. فقد أرادَ أنْ يُؤرَّخَ للإسلامِ من لحظةِ التحوُّلِ من الفردِ إلى الأمةِ، ومن الفكرةِ إلى الدولةِ، وهو ما يعكسُ وعياً عميقًا بمعنى الهجرةِ كتجسيدٍ لتحوُّلٍ نوعى في الوعى والواقعِ معًا.
إنَّ الهجرةَ فى جوهرِها ليستْ انتقالاً مكانيّاً فحسبُ، بل مشروعاً دائماً لتغييرِ الذاتِ والمجتمعِ. إنَّها تذكيرٌ سنويٌّ بأنّ النهضةَ تتطلّبُ تخطيط و صبر و تضحياتٍو رجال يحملون لواءها، وأنَّ الحق لا يُمنَحُ بل يُنتَزعُ، وأنَّ الطريقَ إلى الإصلاحِ يبدأُ بإصلاحِ النفوسِ قبلَ بناءِ المؤسساتِ. وليستِ الهجرةُ ذِكرى تُروى، بل قضيةٌ تُحيا. إنَّها نداءٌ متجدِّدٌ إلى كلِّ دعاةِ التغييرِ: آمنوا بقضيتِكم، خذوا بالأسبابِ، اصبروا على الشدائدِ، ولا تيأسوا من طولِ الطريقِ. فالهجرةُ تعني أنَّ فجرَ الأمةِ يبدأُ حينَ يشتدُّ الظلامُ، و ان بلوغ الغايات ليس بالأمر المستحيل طالما هنالك إرادة و سعى .