مشاركة
46 آراء وافكار منذ شهر مركز الشهيد عثمان مكاوي

حكايات من حرب الكرامة - أرض لا تنكسر فجرًا لم تشرق فيها الراحة

بقلم : الرائد / محمد عبدالرحمن هاشم القاضي

ليلةً لم يخضع فيها القلب لطمأنينةٍ كاملة. منذ ذلك اليوم الذي غمت فيه مليشياتُ الظلام على أرضنا، صار الزمنُ عندنا عدداً من سكاكين: يجرح، لكنه لا يوقف النبض. لم نهنأ بطعم النوم، ولم تنعم لنا العين بسكونٍ واحد — لأن الدمعة عندنا عزيمة، والوجع عندنا عهدٌ لا يُنكث.أما اليوم، فأكتب إليكم بصوتٍ واحدٍ من صدرٍ واحد: لا وقتَ لنا للانكسار ولا مجال للاستكانة. فهذه الحرب التي أنهكت الأجساد لم تَنهِ الروح؛ بل صقلتها. إنما نحن الآن على مفرق التاريخ، هل نَسقط أم نَنهض؟ ونختار أن ننهض، لأن الله معنا، ولأن الأرض تُنادينا باسمائنا.يا أهل الفاشر، يا أهل دارفور: تذكروا أن الوطن لا يُقاس بالأبنية وحدها، بل بقناديل القلوب التي لا تنطفئ. إنّ بيتَك الذي هجّركَ الظلامُ سيبقى لكَ محراباً مقدّساً، وسيعود صوتُ الدفءِ إلى حيطانه. إن رجوعَكم ليس احتمالا بل وعد؛ وعدٌ متجذّر في عزيمة الصادقين، وموثق بدماء الشهداء الذين زرعوا طريق العودة بزهر التضحية.لا أريد أن أواسيكم بكلماتٍ رقيقةٍ تَطير مع أول ريح؛ أريد أن أوقظ فيكم نداء الفجر. قاوموا اليأس كما قاوم المقاتل المتعب ليلَه: بصمتٍ، بإيمانٍ، بانضباط. اجعلوا كل يومٍ تمرّ عليه قلوبكم ساعةَ بناءٍ، لا ساعةَ انتظار. اجعلوا الحزن وقودًا للعطاء، والاشتياقَ دافعًا للإصرار. فالذي يزرعُ الألم اليوم، يحصدُ النصر غداً—بإذن الله.إلى الجندِ والأهلِ والناشئة: تثقّلوا بالعمل لا بالشكوى. احملوا ذكرياتكم كراية، واغرسوها في الأرض لتصبح نبضاً لا يموت. علّموا الصغار أن الوطن لم يُخلق من فراغ، بل صُنع بعرق الرجال والنساء الذين آمنوا بأن للخير موعدًا. اجعلوا لغتكم لغَضبٍ هادئٍ: لا نزقَ، لا فوضى، بل حكمةٌ ترتدّدُ في كل قرار.نحن نُقاتل اليوم لأجل أشياء تتجاوز الخبز والبيت: نُقاتل لأجل فجرٍ يبتسم لأولادنا، لأجل مدرسةٍ تُعاد فيها كتبُ العلم، لأجل سوقٍ يمتلئ بالضحكات لا بالرصاص. نُقاتل لأجل أن يعود الناس إلى ديارهم مطمئنين، مصافحَينَ بعضهم بلا خوف، يعيشون الرخاء الذي لا يشتريه الذهب ولا يثبتّه بندقية.أعلم أن الكلمات قد تبدو قليلة أمام جبروت الجراح. لكنها أدواتٌ أيضاً: كبوصلةٍ تُعيدنا إلى الطريق، كمنارةٍ تُرشد السائرين. فلتكن هذه السطور وَسيلة لإشعال شعلة الأمل في صدوركم. لا تُعطوا لليأس مقعداً في بيتكم. لا تتركوا الفراغ لِأعدائنا ليمتلئ بسمومهم. اجعلوا كل يومٍ تمرّ عليكم رسالةً تُكتب بحروف الفجر: سنعود، وسنعمّر، سنبني، وسنُزهر.وبينما نمضي، لا نغفل عن ذكر من ضحّوا بالغالي والنفيس. لهم صلاتنا، ولأسرهم عزاؤنا، وللأحياء عهدٌ بالسير على دربهم حتى النصر أو حتى اللقاء مع الله. إنّ الشهادة تخلّدهم، والعمل يُكمل طريقهم.أيها الأبطال، اعلموا أن الأرض لا تُنتزع إلا بقلوبٍ لا تعرف الاستسلام. فتمسّكوا بالله، تمسّكوا ببعضكم، تمسّكوا بالأمل. سنعود إلى الفاشر ودارفور، وسنرى بيوتنا تفتح أبوابها للضحك والخبز الطازج، وستعانق السماء ألوان السلام. فليكن اليوم شاهدًا على عزيمتكم وموثّقًا لوعدكم أن تحرّروا أرضكم من دنس الأوباش.