الإعلام بين الوظيفة الإخبارية والدور القتالي
في أزمنة الحرب، لا يُعد الإعلام مجرد ناقل للخبر أو وسيلة للاتصال الجماهيري، بل يتحول إلى أحد أهم أدوات التأثير والسيطرة، سواء على الرأي العام الداخلي أو العالمي. تتعاظم مسؤولية الإعلام في هذه الظروف، إذ يصبح لاعبًا رئيسيًا في تحديد الرواية، وصياغة المفاهيم، والتأثير على النفسيات. غير أن هذا الدور المزدوج يضعه أمام معضلة مستمرة: كيف يوازن الإعلام بين التزامه المهني وضرورات الموقف الوطني؟ وهل يمكن له أن يبقى موضوعيًا في سياق استقطاب حاد ومعركة وجودية؟
إن التخطيط الاستراتيجي للإعلام في زمن الحرب يقتضي تجاوز الردود العاطفية الآنية، والانتقال إلى أدوات مدروسة، تقوم على استشراف المواقف، وإدارة الأزمات، وبناء الثقة. ويستفاد في ذلك من التجارب السابقة، مع استيعاب تعقيدات البيئة الإعلامية الحديثة. نستعرض هنا نموذَجين تاريخيين بارزين، ثم نحلل التحديات التي تواجه الإعلام اليوم، مع التركيز على الحرب الإسرائيلية–الإيرانية كنموذج معاصر.
أولًا: دروس من تجارب إعلامية في الحروب
إذاعة لندن خلال الحرب العالمية الثانية: نموذج للمصداقية رغم التبعية
- السياق التاريخي:
أثناء الحرب العالمية الثانية (1939–1945)، برزت إذاعة «بي بي سي» البريطانية كواحدة من أكثر المنصات الإعلامية تأثيرًا، رغم أنها كانت ممولة من حكومة طرف في الحرب.
- استراتيجياتها الإعلامية:-
الالتزام بالدقة: لم تكن تتردد في نقل الهزائم البريطانية، مما عزز مصداقيتها لدى الجماهير.
- الاعتدال في الخطاب:
تميزت بتجنب التهويل أو التحريض، مما جعلها محل ثقة حتى في دول محايدة. - التوجه متعدد اللغات: خصصت برامج بلغات عدة، كالفرنسية والعربية، لتخاطب الجماهير بلغتها وثقافتها.
• الدروس المستفادة: -
المصداقية تُبنى من خلال الصدق والشفافية، لا التبعية العمياء.- الإعلام الحربي الفعّال لا يتنازل عن المعايير المهنية مقابل الولاء السياسي.CNN وحرب الخليج 1991: الريادة في البث المباشر وتحولات التأثير
- السياق التاريخي:
مثلت تغطية قناة CNN لحرب الخليج الأولى (1990–1991) تحولًا جذريًا في الأداء الإعلامي العالمي، إذ كانت أول من بث مباشرًا من ساحات القتال، مما أدخل الإعلام في مرحلة «الواقع اللحظي».
- استراتيجياتها الإعلامية:
- البث الفوري وغير المُفلتر: غطت لحظة بلحظة القصف على بغداد، ما جعل المتابعين يعيشون الحرب وكأنهم جزء منها.
- الاعتماد على التقارير العسكرية الرسمية: قدمت مقابلات مباشرة مع قادة الجيش الأمريكي. - الاستثمار في التكنولوجيا الفضائية: استخدمت الأقمار الصناعية في نقل الحدث بشكل فوري.
- الانتقادات والملاحظات: -
التغطية الأحادية: افتقرت للتوازن، إذ غلبت الرواية الأمريكية. - نشر الذعر دون تفسير: نقل الصور دون تحليل أضعف من الفهم الشامل للسياق.
• الدروس المستفادة:
- السبق الصحفي لا يُغني عن التحليل العميق. - الإعلام الحربي بحاجة إلى ضبط النفس التحريري والابتعاد عن الإثارة. ثانيًا: الإعلام المعاصر وتحديات الحرب الرقمية – الحرب الإسرائيلية الإيرانية نموذجًا
• سياق الحرب الجديدة:
تتسم الحرب الإسرائيلية–الإيرانية بطابع متعدد الأبعاد، إذ تتداخل فيها القوة الصلبة (الضربات العسكرية) مع الحرب الناعمة (التأثير الإعلامي والنفسي). وفي ظل التطور الرقمي، أصبح الإعلام جزءًا لا يتجزأ من ساحة المعركة.
• أبرز التحديات المعاصرة: -
تضارب السرديات: كل طرف يصنع روايته عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في محاولة لفرض تأويل معين للحدث.
- الحرب النفسية الرقمية: ظهور ظواهر مثل: - «الذباب الإلكتروني».
- إنتاج الفيديوهات المفبركة (Deepfakes).
- تسريب أخبار كاذبة بشكل منسق لإرباك الرأي العام.
ثالثاً: ملامح التخطيط الاستراتيجي للإعلام في الحروب الحديثة لتجاوز الفوضى الإعلامية والانحياز العاطفي، فإن أي تخطيط إعلامي استراتيجي في زمن الحرب يجب أن يستند إلى ركائز واضحة، منها: • التحقق قبل النشر: باستخدام أدوات رقمية لكشف التضليل (مثل Google Reverse Image Search، وFactCheck.org).
• التغطية الميدانية عبر مراسلين متخصصين:
مع تدريبهم على التعامل مع مناطق النزاع.
• الإنتاج التحليلي والتفسيري:
من خلال تقارير توضح الجذور السياسية والتاريخية للنزاع.
• بناء فرق مكافحة التضليل: تعتمد على الذكاء الاصطناعي لرصد الشائعات والرد عليها.
بين الإعلام المقاوم والتضليل المُقنّع – إلى أين؟
تكشف التجارب التاريخية والمعاصرة أن الإعلام في زمن الحرب يُختبر أكثر من أي وقت مضى. فهو مدعو إلى أن يكون وطنيًا دون أن يقع في التزييف، سريعًا دون أن يُضحّي بالدقة، متقدمًا تكنولوجيًا دون أن يتخلى عن القيم الأخلاقية. ويبقى السؤال الجوهري:
هل يمكن أن نُعيد تعريف «الحياد الإعلامي» في زمن الحرب، ليكون انحيازًا للحقيقة، لا للجهة؟ وهل سيتمكّن الإعلام العربي من بناء نموذج خاص به، يمزج بين المهنية والهوية، ليكون جزءًا من موازين القوة لا مجرد انعكاس لها؟