مشاركة
15 بروباغاندا منذ أسبوع مركز الشهيد عثمان مكاوي

اتفاق (جوبا) للسلام..

بقلم : نزار حسين

يخرج السودان الآن من أصعب معتركاته التاريخية وهو يدق المسمار الأخير في نعش مليشيا الدعم السريع، هذه الحرب التي أعقبت كثيراً من الصراعات السياسية والتدهور الإداري للدولة والاحتقان السياسي والشعبي منذ انتهاء فترة حكومة البشير بالثورة التي لم يكن الذين قاموا بها يعلمون ما بعدها، حيث أتى من تسنموا قيادة البلاد وقادوها إلى دهاليز مظلمة لا يملكون بوصلتها، انتهت بنا إلى ما نحن فيه الآن. ورغم أن هذه الحرب التي تركت وشْمَها على صدر كل سوداني حر، قد جمعت قلوب جميع السودانيين في بوتقة واحدة إلا أن هناك بعض الألغام الموضوعة في الطريق إلى سودان آمن مستقر يتفق أبناؤه على التوافق والاتحاد من أجل بنائه واحداً موحداً لا شتات فيه ولا فرقة، وبالتأكيد هناك من يتربص بنا ويبحث عن مداخل الفتن ليحطم أي مشروع بناء ينتهي بنا إلى سودان قوي موحد، فقد ثبت لكل مرتاب وبوضوح شديد أن هذا البلد موضوع تحت دائرة (اللشنكة ) وأن (زوم) العدو لم يفارقه وأن مخططاته الانتهازية ستستمر ما لم نعي أن قوتنا في اتحادنا وأن هذا الوطن العظيم يستحق أن نتجاوز فيه خلافاتنا الداخلية وأن ينكر كلٌ منا ذاته من أجل الآخر وأن نعمق في دواخلنا أننا تجسيد متعدد الأعراق والسحنات والمشارب لهذا الوطن، في داخل كل منا قطعة من هذه الأرض ونهرٌ وقبيلة. 


_ (جوبا).. جدلية التوقيت..!

يتساءل الرأي العام هذه الأيام عن اتفاقية جوبا التي ملأت الآفاق بالجدل، ماهي وما أسباب عقدها ومتى ولماذا، وقد لاح في الأفق أيضا العديد من صيادي  الماء العكر من أعداء السودان الذين يتزيّون بزيه ويحملون أوراقه الثبوتية، ومن خلفهم من يتربصون بنا الدوائر، يريدون أن ينفخوا في نار الفتنة ليفتح باباً جديداً للصراع يكون امتداداً لما ذاقه هذا الشعب من ويلات الخلافات السياسية والعسكرية. 

اتفاق سلام جوبا هو اتفاق تم توقيعه في 3 أكتوبر 2020 بين الحكومة الانتقالية السودانية وعدد من الحركات المسلحة، بهدف إنهاء النزاعات في مناطق دارفور، جنوب كردفان، والنيل الأزرق وتم التوقيع عليه في مدينة جوبا، عاصمة جنوب السودان، بمشاركة دولية واسعة.

وقد اشتمل هذا الاتفاق على بنود كان أهمها :  تقاسم السلطة بمنح الحركات المسلحة نسبة 25% من المناصب في الحكومة الانتقالية. ودمج قوات الحركات المسلحة في الجيش. كما نص هذا الاتفاق على الالتزام بمحاسبة مرتكبي جرائم لحرب، وعودة النازحين واللاجئين وتوفير التعويضات وإعادة الإعمار في المناطق المتأثرة بالحرب. 

 (تكنوقراط)!! 

وقد ظل هذا الاتفاق حبيس الأدراج والذاكرة منذ بدأت حرب مليشيا الدعم السريع، مثله مثل كثير من الملفات المتعلقة بالحكومة، حيث توجه الجميع نحو الحرب وكيفية القضاء على هذه المليشيا.  ولكن منذ تعيين رئيس الوزراء الجديد كامل إدريس ودعوته لحكومة (تكنوغراط) لاحت في الأفق بوادر قلق من الحركات المسلحة الموقِّعة على اتفاق جوبا، حيث إن تشكيل حكومة كامل إدريس تعني تجاوز بند المحاصصة الذي يعطي الحركات مناصب محددة بنسبة 25% من الحكومة، وحكومة (تكنوغراط)، والتي تعني الاستعانة بأشخاص ذوي كفاءة لحكم البلاد دون النظر إلى الانتماءات الحزبية، تتعارض مع فكرة إعطاء أي حركة أو حزب منصبا يختار فيه من يشاء من أعضائه، دون النظر في مستوى كفاءة المرشح، حيث إن الحركة وحدها من تختاره دون الرجوع لأي جهة أو أحد.

وحكومة كامل إدريس تتبنى نهجا مختلفا يرفض فكرة المحاصصة في الأساس، مما يثير قلق الحركات المسلحة التي ترى أن تمثيلها السياسي حقُّ أصيل وفق اتفاق جوبا. وهذا هو مثار اللغط الذي يملأ صداه الأفق الآن.

 قلق!! 

 القلق الذي يعتري المراقبين من الحادبين على مصلحة هذا الوطن، على عكس أعدائه الذين يريدون لهذا الأمر أن يتطور ليصبح نقطة للخلاف وبداية مرحلة أخرى من الصراع في السودان، هذا القلق سببه أن هناك أصواتاً لا تعترف في الأساس بأن يستمر هذا الاتفاق قيد التنفيذ، حيث إن الظروف التي تم فيها اختلفت الآن، وإن البلاد ما زالت تعاني من جراح الحرب التي لم تنتهِ بعد رغم بوادر انتهائها، وإن أي خلافات في هذا التوقيت قد تؤدي إلى نتائج كارثية لا يعرف أحد مآلاتها. وقد بدأت الانتقادات تتواتر لهذه الاتفاق من زوايا تحليلية بالرجوع لأصله، وعلَتْ دعوات لتعديله من خبراء سياسيين يرون أنه يحتاج إلى إعادة نظر في بعض النقاط مثل تركيزه على توزيع المناصب دون النظر إلى جذور النزاع التي تجعل هدفه الرئيسي يبدو وكأنه أن تحكم الحركات المسلحة فقط. كما يُشبِّه البعض أهداف هذا الاتفاق بأهداف مليشيا الدعم السريع من حيث التنازع حول التمثيل السياسي وتوزيع المناصب، سواء في الحكومة أو في المؤسسات السيادية والسعي وراء مكاسب سياسية أكثر من الالتزام بمشروع وطني جامع. ويذهب المُقارِن إلى أن كلا الخلافين له امتداد جغرافي في إقليم دارفور، الذي ظل ساحة مركزية للصراع السياسي والعسكري على مدى عقود من الزمان. 

 الوطن قبل الحزب 

ومع اتقافنا مع كثير من وجهات النظر التي ترى أن الحركات المسلحة تحتاج لإعادة النظر مستقبلاً في مصلحة الوطن قبل الحزب، لا نذهب إلى جدوى هذا التشبيه لأن الحركات المسلحة كان هدفها الأصيل هو مصلحة مواطني درافور وقد نشأت في الأساس مطلبية وباحثة عن الحقوق لا الاستئصال الكلي للحكومة كما كان يخطط القائمون على مشروع مليشيا الدعم السريع. وقد كانت الحركات المسلحة والتي نص اتفاق جوبا للسلام على دمجها في قوات الشعب المسلحة، مثل حركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان كانت جزءًا من الحكومة الانتقالية، وقد شاركت في هذه الحرب جنباً إلى جنب القوات المسلحة في حرب الكرامة ضد هذه المليشيا.

 الوحل!!

  ولتجنب الانزلاق إلى بحيرة من الوحل في هذا الموضوع يجب إخضاعه إلى حوار شامل يجمع الحكومة والحركات المسلحة والمجتمعات المدنية لقطع الطريق على أي احتمال لتطور الأمر إلى خلاف حقيقي. يجب مراجعة اتفاق جوبا وتحديث آلياته بشكل يحقق العدالة التمثيلية ويحترم التوازن الوطني وانتهاج التدرج في تقاسم السلطة بدلًا من المحاصصة التي تتناقض مع مبدأ تعيين أهل الكفاءة في الفترة الحرجة التي يمر بها السودان، وهذا لا يعني عدم إشراك الحركات في اللجان الفنية والمجالس التشريعية، ليأتي فيما بعد استيعاب الكفاءات التي تنتمي لهذه الحركات في المناصب التنفيذية. إضافة لضرورة إعطاء القيادات الأهلية والمجالس التشريعية دورها في المرحلة القادمة لما لها من تأثير كبير على صناعة الرأي العام وتوجيهه في المسار الصحيح ولا ينفك كل هذا الطرح عن التركيز على ضرورة جلوس أبناء هذا الوطن جميعاً في طاولة مستديرة التي تعتبر هي الخطوة الأولى في الطريق إلى حل خلافاتنا الداخلية التي أدمت هذا الوطن ودفّعت شعبه الجريح الثمن.