مشاركة
10 من القول منذ أسبوع مركز الشهيد عثمان مكاوي

الحروب... حينما تشتعل في القلوب والمجتمعات قبل الميادين

بقلم : عقيد دكتور ركن أحمد يوسف النور

لم تعد الحروب فى عالم اليوم مجرد صراعات مسلّحة تُقاس بعدد الضحايا أو حجم الدمار، بل باتت آلة تمزّق النسيج الاجتماعى، وتُحدث تشوهات عميقة فى البنية الثقافية، وتلقى بظلال قاتمة على البيئة والمستقبل الإنسانى. وما نشهده من تداعيات مدمّرة في بلادنا – كنموذج حى – يكشف أن آثار النزاعات تتجاوز خطوط النار لتطال الإنسان فى كيانه، والبيئة فى توازنها، والمجتمع في استقراره. ظواهر سالبة تتكاثر تحت رماد الحرب فى ظل الانفلات الأمني وتفكك شبكات الرقابة الاجتماعية، تفشّت ظواهر مقلقة أبرزها صناعة الخمور البلدية وتعطيها و ترويج المخدرات و تعاطيها أيضاً، مما أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في معدلات الجريمة؛ من سرقات ومشاجرات إلى جرائم قتل وتهديد بالسلاح لأسباب تافهة، تُنذر جميعها بانهيار المنظومة الأخلاقية والقيمية. وتفاقمت الأزمة الاجتماعية نتيجة النزوح الواسع وتشتّت الأسر، حيث بات تشرد الأطفال مشهداً  مألوفاً ، وازدادت نسب الطلاق بفعل الضغوط الاقتصادية وانعدام مصادر الدخل، فى حين تحوّل التسول – لا سيما بين النساء والأطفال – إلى وسيلة للبقاء، مع خشية أن يتحول لاحقاً إلى نمط دائم لكسب العيش. أما على الصعيد الثقافي، وعلى الرغم من ظهور بعض القيم السودانية الأصيلة (التكية، إعانة المحتاج، التكافل الاجتماعى) فقد أفرزت الحرب أنماطاً سلوكية دخيلة نتيجة السكن الجماعى فى مراكز الإيواء بالداخل ومعسكرات النزوح بالخارج، ما أضعف الهوية الثقافية المحلية، وزرع بذور تصدع فى القيم والمفاهيم المجتمعية التي كانت تشكل صمّام أمان للسلوك العام. البيئة... الضحية الصامتة للحرب

فى غمار الصراع، دفعت البيئة ثمناً باهظاً  فقد أدى شح مصادر الطاقة إلى القطع الجائر للغطاء النباتى للحصول على حطب الحريق، ما أسفر عن تدهور التربة، واتساع دائرة التصحر، وانحسار التنوع البيولوجى، وتفاقم المخاطر المناخية. بذلك، أصبحت البيئة تدفع فاتورة حرب لم تكن طرفاً فيها، لكنها الخاسر الأكبر على المدى البعيد. من التشخيص إلى صناعة الحل

- إن توصيف الأزمة لا يكفى ، ما لم يُترجم إلى خطط واقعية لمعالجة جذورها، لا مظاهرها فقط. ومن أبرز محاور الحل: - إعادة تأهيل المرافق الحيوية لتسريع العودة الطوعية للنازحين واللاجئين، وتقليص معدلات التكدس التى تغذى الأزمات. - الدعم النفسى للمتضررين من خلال جلسات علاج نفسى وسلوكى تُعيد لهم التوازن.

- إدماج الأطفال المتسربين في المدارس أو مراكز التدريب المهني، حمايةً لجيل المستقبل من الانجراف نحو التشرد والانحراف. - تمكين اقتصادى حقيقى للأسر المتضررة عبر دعم المشاريع الصغيرة والحرف المنزلية، خاصة للنساء والشباب. - معالجة الإدمان على الكحول والمخدرات ضمن برامج علاجية متكاملة وفعّالة.

- تشجيع المبادرات المجتمعية لإعادة إعمار المنازل وتوفير مواد البناء والدعم الفني للفئات المتأثرة. - الحد من القطع الجائر للأشجار عبر تقديم بدائل طاقة نظيفة، وإطلاق حملات تشجير وإعادة تأهيل بيئى واسعة.

الإعلام والمجتمع... جبهة لا تقل أهمية

أي خطة إصلاحية لن تنجح بمعزل عن دور الإعلام والمجتمع المدني. فالإعلام مطالب بلعب دور تنويرى فاعل، لا يكتفى برصد الظواهر، بل يسلط الضوء على الحلول، ويحفّز المجتمع على التفاعل معها. كما ينبغي إشراك القيادات الشعبية والمنظمات المدنية فى وضع وتنفيذ خطط لإعادة الإدماج، ومعالجة ظاهرتى التشرد والتسول، وضمان إعادة النساء والأطفال إلى أسرهم في بيئة مستقرة تحفظ كرامتهم وتفتح لهم أبواب الأمل.

خاتمة : من تحت ركام الحرب ينبثق الأمل

ما خلّفته الحرب من جراح ليس قدراً محتوماً ، بل دعوة إلى إعادة النظر فى أولوياتنا الوطنية. فبناء الأوطان لا يبدأ بإعادة البنيان فحسب، بل بترميم النفوس واستعادة الثقة وإحياء منظومة القيم. وما أحوجنا اليوم إلى تحويل أنقاض الحرب إلى أرضٍ خصبةٍ تُنبت الوعى ، وتُثمر السلام، وتُمهّد لمستقبل يليق بكرامة الإنسان السودانى وإنسانيته