مشاركة
14 بروباغاندا منذ أسبوع مركز الشهيد عثمان مكاوي

القصر الجمهوري القديم..

بقلم : نزار حسين

آثار أقدام (القطيع)..!

 لم تكد أعيننا تصدق ما ترى وهي تتلمس آثار ذكريات نحتت في ذاكرتنا الواعية واللاواعية لأحداثٍ تمت في هذا المكان الذي جسد الرمزية المطلقة لسيادة أرضنا التي تتمدد طولاً وعرضاً في أرواحنا وأجسادنا، تحملنا على سطحها ونحملها في تجاويف أرواحنا طبقات من الحياة تضرب في عمق الأرض وتجتاز عنان السماء..!لم تكد أعيننا تصدق أن في الأرض من بنِي الإنسان من يملك طاقةً لتحمُّل قدرٍ كهذا من الحقد الذي إن وضع في البحر لجمَّده وإن وضع على الجبال لأذابها..!فما فعله (قطيع) الدعم السريع في القصر الجمهوري لم يكن ليمُر على مخيلة أعتى جبابرة التدمير على مرِّ مسيرة البشرية..! دخلنا إلى باحة القصر القديم وارتسمت الدهشة على وجوهنا من هول ما رأينا فيه من حطام، لقد نظرنا إلى تاريخنا كأمَّةٍ ووطن وهو ينهار في مشهد تراجيدي.. كانت آثار الانهيار في كل الأركان كأنها تحاكي هنداماً يتداعى، إنه هندامنا المتجسد في المباني التي تحمل كل طوبة منها وكل ذرة ترابٍ تفصيلةً من أمشاج تكويننا كدولة ضاربة في القدم..! القصر القديم..! 

القصر الجمهوري القديم، ذلك المبنى الذي ظل شاهقاً في مكانه لأكثر من 200 عام، يراقب النيل عن كثب وتعْلَق في أركانه أصداء أمواجه وصافرات بوارجه وأصوات الصيادين والسامرين والمرتحلين فيه، وظلت أركانه تحتفظ بهمس أسرار حكم الدولة وخبايا تصاريفها وإعلان التغيرات الجذرية في المصير الواحد لكل هذا الشعب، احتفظت جدرانه بأصوات الأباطرة والحكام والرؤساء والوزراء وخرجت منه أهم القرارات التاريخية كان أعلى قائمتها إعلان الاستقلال ورفع علم السودان الحر، تلك اللحظة التي تلتقي فيها كينونة كل السودان في ناموس الوجود والاعتراف بالذات. 

التاريخ في حبات الغبار..!

 القصر الجمهوري أسسه الحكمدار محو بك أورفلي في عام تأسس عام 1825 وأطلق عليه (سراي الحكمدارية) وشمُخ في مكانه رمزاً للسيادة الوطنية في تلك الفترة بذات المباني لربع قرن كامل من الزمان حتى أعيد بناؤه عام 1851 باستخدام الطوب الأحمر المستجلب من مدينة سوبا وهي مدينة لها حيزها الواسع من تاريخ السودان.

وقد أعاد البريطانيون بناءه عام 1900حيث لم يخضع بعدها لتغييرات جذرية إلى أن عاث فيه ذلك (القطيع فساداً وتدميراً) عام 2023-2025م. ظل كل هذا التاريخ صوراً معروضةً في الجُدر، وأحداثه أصرت على البقاء في حبات الغبار التي أثرناها ونحن نخطو على ركامه.

 إعلان الاستقلال الأبدي..!

في القصر الجمهوري تم رفع علم السودان لأول مرة في 1 يناير 1956، وإعلان نهاية الاستعمار إعلاناً أبدياً. وقد شهد هذا القصر مقتل الحاكم البريطاني الجنرال غوردون باشا في عام 1885، وكانت هذه الحادثة هي بداية التاريخ لنهاية الحكم التركي-المصري في السودان. ارتبطت لحظة قتل غوردون على السلم الذي المؤدي إلى الطابق العلوي لهذا القصر بمخيلة استدعاء بداية استقلال هذا الأرض، وجعلت هذا السلم رمزاً لعتبات الحرية. وفي التاريخ الحديث أيضاً حوى القصر الجمهوري تفاصيل وتحولات عميقة الأثر في المصير الجمعي للشعب السوداني والدولة السودانية، فانقلاب يوليو 1971 بدأ منه حيث تم احتجاز الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري داخله، وهو الرجل الذي شكل علامةً فارقةً في سلسلة رؤساء السودان، بما تميزت به فترة حكمه من قوة وثبات ولما امتاز به من قوة شخصية وحضور طاغٍ في المجتمع الدولي، وقد سجل له التاريخ الكثير من الأحداث داخل جدران القصر الجمهوري.القصر الجمهوري ظل دائماً هو وجهة المظاهرات والاحتجاجات، والتعبير الجماهيري مما جعله رمزًا وقبلة لتوجيه الرسائل الشعبية والمطالبات الحزبية والحراك السياسي ذو الطابع الحشدي

.متحف القصر.. عبْق العظمة!! بالقصر الجمهوري متحفٌ يُعد من أعرق متاحف العالم بما يحتويه من جواهر تاريخية ذات قيمة عالمية وقد تم وضعه محتوياته داخل مبنى كاتدرائي يعود لعام 1912، حيث يعد المبنى في حد ذاته مبنىً أثرياً وإرثاً تاريخياً، تم تحويله إلى متحف في عهد حكومة الرئيس عمر حسن أحمد البشير في عام 1999.

وامتداداً لمتحف الكاتدرائية هناك جناح لعرض السيارات الرئاسية المرتبطة بالحقب المختلفة من تاريخ حكم السودان وهي سيارات استخدمت خلال الحكم الثنائي وحتى بعد الاستقلال، هذه المركبات الفاخرة كانت تُستخدم في المواكب الرسمية واستقبال الزعماء، وتقديم أوراق اعتماد السفراء، وتحولت لاحقًا إلى مقتنيات متحفية داخل مرآب زجاجي بالقصر، وهي مجموعة من السيارات ذات الماركات المميزة عالمياً ضمنها سيارة (رولز رويس) أهديت لحكومة السودان من خديوي مصر عام 1924 وسيارة مصفحة أهديت للرئيس جعفر محمد نميري عام 1984م وغيرها.وبالمتحف أيضاً لوحات زيتية وصور لملوك مصر فؤاد وفاروق وشخصيات سياسية سودانية على رأسها بعض الرؤساء الذين حكموا في فترات مختلفة، وصور لشهداء ورموز وطنية، ضمنها صور لمعركة (كرري) الشهيرة وصورة نادرة للسلطان علي دينار بعد مقتله.كما يعرض المتحف العديد من الأوسمة الرسمية والأنواط.وبالمتحف العديد من هدايا تم تقديمها من زعماء العالم مثل حوت أحجاراً نادرةً من سطح القمر تم إهداؤها من  الرئيس الأميركي نيكسون وطاولة شطرنج من الصدف من شاه إيران وإبريق فضي من ذو الفقار علي بوتو.وبالمتحف أيضاً كان هناك (بيانو) كان يعزف عليه الجنرال غوردون قبل مقتله عام 1885.والأهم من هذا بالمتحف أثاثات رئاسية كان أهمها طاولة الزعيم إسماعيل الأزهري المزخرفة بالنحاس.علاوة على كل هذا وثَّق المتحف في مكتبة منفصلة لكل الصور والوثائق التي ترصد مراحل النضال الوطني السوداني في كل مراحله.

الأمر أكبر..!

 كل هذا الإرث الذي يسمو على التقييم المادي، تم تدميره بصورة أقرب للمنهجية، لطمث هوية هذا الشعب وتشويه تاريخ هذا البلد الذي ظل مستهدفاً طيلة تاريخه لما يملك من ثروات، ولما يحوي إنسانه من أصالة تجعل الحضارات القديمة كلها تدور حوله وكأنه المحور الأول للبشرية، فالدراسات التي تطفو على السطح كل فترة تحدث عن تاريخ هذه البقعة المميزة من الأرض تؤكد أن في هذا المكان المختلف من العالم سرَاً ما، وأن خلف كواليس هذه الحروب التي لا تكاد تنتهي حتى تبدأ قصة ما، لم تكتمل فصولها، إلا أن كل الفصول التي مضت كانت تكسر وتغير بعزيمة هذا الشعب، ولم ينجح أي مخطط لإذلاله واستقلاله وسلب حقه وثرواته، رغم أن الخطط تتغير والجنود يتغيرون، وما هذا التدمير والهدم وسرقة السجلات والمقتنيات التاريخية ومحاولة محو سجلات التاريخ، إلا دليلاً بيّناً على أن الأمر أكبر من مجرد مجموعة من البدائيين الذين نشأوا في العراء وتشربوا قانون الصحراء وعاشوه بينهم، وتم تلقينهم مفاهيم مغلوطة وتدجيجهم بالسلاح وإطلاق العنان لأحقادهم ضد هذا الشعب، الأمر أكبر من أحلام هذا القطيع الذي يسير محطماً وكاسراً وقاتلاً وناهباً.. وكأنه خرج للتوِّ من الحظيرة